فإن من أعظم أساليب الحرب الفكرية والنفسية التي شُنَّت على أهل السنة في هذا العصر ما يُعرف بـ “المصطلحات الهدامة”، وهي أوصاف أُلصقت زورًا وبهتانًا بأهل الحق والمجاهدين المخلصين، لا لتوصيف واقع، بل لتشويه صورة، وخلخلة صف، وتمييع ثوابت.
ومن هذه المصطلحات: “خوارج العصر”، “سرورية”، “حركية”، “قطبية”، وغيرها من التسميات التي لم يكن لها وجود مؤصّل في الواقع العملي داخل ساحات الجهاد أو مجامع أهل السنة، وإنما أُنشئت ودُعِّمت في مختبرات الإعلام الرسمي للأنظمة العلمانية التي حكمت بلاد المسلمين، لتكون سلاحًا موجّهًا نحو كل صوت ناصح، وكل جماعة مجاهدة، وكل عالمٍ رباني يأبى الركون إلى الظالمين.
نعم، قد يوجد أفراد شذّوا في فهمهم أو في منهجهم، وهذا واقع في كل ميدان، لكن تضخيم هذه الحالات الشاذة النادرة، وتوظيفها لإسقاط طائفة كاملة، أو وصم ساحة الجهاد برمتها بتلك الانحرافات، فذلك من الظلم البيِّن، والخذلان المبين.
ولو جئنا إلى الذين يطلقون هذه الألفاظ، وطالَبْناهم بتنزيل هذه المسميات على الأصول الشرعية، لم يستطيعوا، وسوف تجد أن هذه التسميات لا محل لها من الإعراب في واقعنا الحالي، وليست إلا إبرًا مخدّرة، تُسكِت صوت الحق، وتُجمّل صورة الباطل، وتُفرغ المعاني الشرعية من محتواها، وتُسوِّغ السكوت عن الطواغيت بل وتلميعهم، في الوقت الذي يُشنَّع فيه على المجاهدين، والمصلحين، والعلماء الربانيين.
والواقع يشهد أن هذه المصطلحات لا تُستخدم في مواجهة من عبَد الأوطان، ولا من طعن في الثوابت، بل تُوجَّه غالبًا نحو من تمسّك بالسنة، ونافح عن بيضة الأمة، ورفع راية الجهاد في وجه المحتلين والطغاة.
وللأسف، وجد هذا التيار المضلِّل له أتباعًا يُسقِطون النصوص الشرعية في غير مواضعها، ويحرفون مقاصد الأحاديث، فيجعلون أحاديث الخوارج – مثلًا – سيفًا مُسلطًا على رقاب المجاهدين، ويؤولون كل حديث في وجوب نصرة المسلمين بما يُسوِّغ خذلانهم، ويتعسفون في تأويل النصوص حتى يُسكَت صوت الجهاد، ويُجمَّد الدين، وتُلغى أحكام القتال في سبيل الله.
ثم يأتيك هذا الشخص، فتجده يُلتمس الأعذار للطواغيت والكفرة، ويتكلّف في تأويل جرائمهم، ويخترع لهم المخارج الشرعية والفقهية لتبرير بقائهم. ثم إذا به هو نفسه يتعجب: كيف تمدد الشيعة؟ كيف تغوّلت إيران؟ كيف سقطت الدول السنية؟ وهو لا يدري – أو يدري ويتجاهل – أنه كان أداة فعالة في تدمير كل مشروع نهضوي للدفاع عن أهل السنة، ومحاربة من بذلوا أرواحهم ودماءهم فداءً للأمة.
والمؤلم – بل والمضحك المبكي – أن ترى هؤلاء يتباكون على حال الأمة، ويرددون في المجامع: “اللهم انصر الإسلام والمسلمين”، وهم لم يتركوا وسيلة إلا استخدموها في محاربة الإسلام الحق، والمجاهدين الصادقين، والعلماء الربانيين.
فلْيُعلَم أن الأمة لا تسقط فقط بصواريخ العدو، بل قد تُسقِطها الكلمات المسمومة، والمصطلحات الموجهة، وأشباه العلماء الذين لبسوا الحق بالباطل، وباعوا دينهم بدنيا غيرهم.
والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من أعظم الفجوات التي تسببت في تدمير أهل السُّنَّة، وأجهضت كثيرًا من المشاريع الجهادية والنهضوية في عصرنا: فقدان الأولويّات وغياب ميزان المقاصد والمفاسد. فإنك ترى بعض المنتسبين إلى أهل السُّنَّة، بل ومِمَّن قد يُعَدُّون في عداد أهل العلم، يشتدّون في النكير على إخوانهم لمجرّد خلافٍ سائغٍ، أو خطأٍ عارض، ويتركون – في الوقت نفسه – عظائم تُهدُّ بها أركانُ الدين؛ من كفرٍ بواح، ومظاهرَ فاحشةٍ تُحاربُ اللهَ ورسولَه جهارًا نهارًا.
وهؤلاء إنما يفعلون ذلك لما يداخل نفوسَهم من حظوظ الدنيا؛ إيثارًا لسلامة الجاه، وصيانةً للمقام، وحرصًا على ما بأيديهم من الأموال. فيسكتون عن كبار المفسدين، ويغضّون الطرف عن أعداء المِلَّة الظاهرين، خشيةَ أن تمسّهم سخطةُ متنفِّذٍ أو سلطان. ثم يُغلِّظون القول فيمن خالفهم في مسألةٍ اجتهادية، أو زلَّ في فرعٍ صغير، متذرِّعين بأنهم ينصرون العقيدة ويحرسون الملّة.
والحقُّ أن هذا الصنيع ليس نصرةً للدين، بل هو ضربٌ من الإرجاف، وتلبيسٌ على العوام، وتبريرٌ شَكليٌّ موهوم لسُكوتهم عن الباطل الماحق. يلوذون بعباءة الشريعة ليستروا بها مصالحهم، ويُلبسون مداهنتهم ثوب «الغيرة على التوحيد»، حتى إذا تعارض حقُّ الله مع دنياهم، قدّموا دنياهم، وألبسوا ذلك ثوب «الحكمة والمصلحة الشرعية».
إن الواجب على طالب العلم أن يضبط بوصلته بموازين الوحيَيْن، فيقدّم الأهمَّ على المهم، ويعرف درجات الأحكام، ويُنزل النصوص منازلها الصحيحة، فيأمر بالمعروف على بصيرة، وينهى عن المنكر على بصيرة، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمنعه عن قول الحق خوفُ سلطان، ولا طمعُ مال.
قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾،
وقال النبي ﷺ: «أفضلُ الجِهاد كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائر».
فاللهَ اللهَ في رعاية الأولويّات، وإقامة العدل في الميزان، وتقديم نصرةِ الدين على حظوظ النفوس. فبذلك تُصانُ الجماعة، وتنجو الأمة، وتُحيى مشاريعها الإصلاحية والجهادية والنهضوية بإذن الله تعالى.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.