نشأ في هذا العصر نوع جديد من الانحراف الفكري يُلبس لباس السلفية، وهو في حقيقته تيار علماني خفي، يُسمّى مجازًا بـ”السلفية المدخلية” أو “السلفية المفرغة”، وهو تيار استُغلّ فيه شعار السلف الصالح، لتفريغ الإسلام من جوهره، وعزله عن الحياة العامة، وتحويله إلى طقوس فردية لا تتعدى جدران المساجد.
وهذا التيار، وإن رفع راية السلف، إلا أنه فصل الدين عن السياسة، وعن الحكم، وعن شؤون الأمة، وعن الإنكار على المنكرات العامة، وحصَرَ الدين في أبواب الصلاة والوضوء وآداب الدخول والخروج، وجعل أحكام الشريعة الكبرى في الحكم والسياسة والحرب والسلم من اختصاص السلطان وحده، وإن خالف الوحي وأهلك الأمة.
وهكذا تولدت ما يمكن تسميته بـ”السلفية العلمانية” أو “السلفية الوظيفية”، التي أُنتجت نتيجة اختراقٍ عميق قاده التيار المدخلي، المدعوم من أنظمة لا تريد للإسلام أن يحكم، بل تريد منه فقط أن يبرر، ويصمت، ويُدجّن.
فهم لا ينكرون على الحاكم إن حكم بغير ما أنزل الله، ولا إن ظاهر الكفار، ولا إن صادر أموال الناس، ولا إن عطّل الحدود، ولا إن قمع الدعوة، بل يرون الطعن في الحاكم الفاجر او الكافر من أعظم الكبائر، أما الطعن في العلماء والدعاة المجاهدين، والمصلحين الآمرين بالمعروف، فهو عندهم من الجهاد في سبيل الله!
لقد غيّر هذا التيار مفهوم “السمع والطاعة” من بابٍ منضبط تُحفظ به الجماعة وتُحقن به الدماء، إلى ذريعة لتعطيل الشريعة، و”السكوت على الباطل” باسم الصبر، و”الطعن في المجاهدين” باسم منع الفتنة، و”موالاة الظلمة” باسم التوحيد.
وبهذا انفصل الدين عن واقع الأمة، وتحوّل إلى دروس فقهية معزولة عن معركة العقيدة والهوية، وسكت كثير من المنتسبين للسلفية عن نواقض الإسلام الكبرى، واكتفوا بالتحذير من رفع السبابة قبل أوانها، أو مدّ الرجل في الصلاة أكثر من اللازم!
هذه ليست سلفية محمد بن عبد الوهاب، ولا سلفية ابن تيمية، ولا سلفية الأئمة الذين كانوا يواجهون السلطان إذا جار، وينكرون البدع إذا ظهرت، ويقودون الأمة للرجوع إلى الله بحقٍّ وصدق.
السلفية الحقّة دين شامل، يُقيم التوحيد في القلب، ويحكم به في الأرض، ويضبط به السياسة كما يضبط به الصلاة، ويُقيم به الدولة كما يُقيم به الجماعة، ويُعلي سلطان الله فوق كل سلطان، وشريعة الله فوق كل دستور.
أما “السلفية المدخلية”، فهي مشروع نزع الروح من جسد الدين، وإبقاء شكله، ليُستخدم في تبرير الطغيان، وقمع الشعوب، وتشويه صورة السلف الصالح أمام الأجيال.
فليُحذر من هذا التيار، فإنه أشدّ خطرًا من كثير من دعاة البدع المكشوفين، لأن ضرره يأتي باسم السنة، ويضرب من داخل الصف، ويغرس الانبطاح في قلوب الشباب باسم الطاعة، ويصنع لهم إسلامًا مستأنسًا لا يعرف الجهاد، ولا يعظم الأمر بالمعروف، ولا يغار على الدين، ولا يقيم لله ميزانًا في الأرض.